المؤلف: راشد الغنوشي

الناشر: دار المجتهد للنشر والتوزيع- تونس

سنة النشر: 2011

الطبعة: الأولى

عدد الصفحات: 195

كتاب "مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني" للشيخ راشد الغنوشي مؤسس حركة النهضة التونسية، وأحد كبار مفكري الحركة الإسلامية المعاصرين، من الكتابات المهمة في طرح الإشكالات والشبهات التي تعترض الفكر الإسلامي خاصة في قضايا الحريات والمساواة والمجتمع المدني وحقوق الإنسان والحداثة والعلمانية.

الكتاب يعيد موضَعة الفكر الإسلامي في الإطار العالمي من خلال منهج مقارن، يعرض فيه موقف الإسلام وتجربته التاريخية في تلك القضايا مقارنة بالفكر والتجربة الغربية، ومواطن التلاقي وأماكن الاختلاف، غير أن ما يميز الكتاب هو إصراره على ضرورة ألا يعطي الفكر الإسلامي ظهره للعطاءات الإنسانية التي استطاعت تقديم شيء ذي قيمة للإنسانية، وضرورة أن يستفيد الفكر الإسلامي منها، مع احتفاظه بخصوصيته الحضارية، وفلسفته المرتكزة على الوحدانية للخالق، ومصدرية الوحي.

المقاربة الأولى: الحريات العامة في الإسلام 

يبدأ الغنوشي تلك المقاربة بأسئلة، منها: هل الحرية كمفهوم فلسفي وأخلاقي مفهوم حديث على الحضارة الإسلامية لم تعرفه إلا مع الاكتشاف الأوروبي في القرن السابع عشر الميلادي مع الثورات الأوروبية ثم الثورة الأمريكية والفرنسية؟

وهل السبب في حداثة مفهوم الحرية في الحضارة الإسلامية - وفق ذلك الرأي- يعود إلى التعارض بين الرؤية الكونية للعالم المتمركزة حول الإله، والرؤية المتمركزة حول الإنسان؟ وهل هناك تعارض بين الشريعة والمعايير الحديثة للعلاقات الدولية وحقوق الإنسان يحول دون تحقيق الحرية، وبالتالي ينشأ الاختيار الصعب بين أن تكون مؤمنا وبين أن تكون حرا؟

إشكالات كثيرة تدور حول الحرية، وهو ما يطرح ماهية المفاهيم الأساسية للحرية في الغرب، وماهية الحريات الأساسية في الإسلام، وهنا يأتي السؤال التأسيسي: ماذا يعني أن تكون حرا؟ وهل يكفي أن تنعدم القيود حتى تكون حرا؟ وهل تحقق الحرية عندما يكون الإنسان سيدا لنفسه؟

نجحت الحداثة الغربية في تنحية ما تعتبره عقبات دينية، وقيمية، في سبيل تحقيق الحرية، ولكن تلك التنحية أفشت القلق والتوتر، فالإنسان عندما يكون حرا بدون هداية تصبح الحرية عبئا عليه.

وعند دارسة الحرية في المجال القانوني والسياسي والأخلاقي والاقتصادي، فإنها تركز على علاقة الإنسان بالمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي هناك حريات للمواطن في مواجهة الدولة والفئات المحتكرة للثورة والسلطة، ومن هنا أصبح البحث في الحرية يدور حول موقع الديمقراطية باعتبارها الإطار العام لتنظيم الحريات والتعبير الحر عن إرادة الشعب، بما يجعل القرار صناعة مجتمعية عبر مؤسساته وقواه.

تعد مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان هي الضمان الحقيقي للحريات العامة، وأهم إنجاز للحداثة الغربية هو إبداعها لآليات نقل السلطة، وآليات الديمقراطية، وهو ما ساهم في أن يكون الشعب حاضرا في صناعة القرار السياسي، فالحرية التي تحققت في الغرب لم تأت نتيجة إيمان فلسفي فقط، وإنما جاءت كذلك نتيجة نضال كبير، ونتيجة واقع دولي تمثل في خوف الدول الغربية من الزحف الشيوعي الذي كان يقترب من أراضيها في بدايات القرن الماضي، لذا عندما خفت الضغط الشيوعي كانت هناك مخاوف من أن يحدث نكوص على تلك الضمانات، لأن تلك الحقوق لم تتأسس على مبادئ وقيم أخلاقية ودينية واضحة يعطيها ضمانات كاملة، ويرى البعض أن مضمون الديمقراطية يتراجع في التجربة الرأسمالية في ظل تقلص الضمانات الاجتماعية، واحتكار فئة قليلة لوسائل الإعلام والثروات.

ويؤكد الغنوشي على الارتباط بين الديمقراطية والعدل الاجتماعي، فلا شورى حقيقية مع وجود فوارق شاسعة في المجتمع بين الأغنياء والفقراء، كما أن الاستبداد هو العدو الأعظم للإسلام بعد الشرك بالله، والحرية هي أفضل المناخات لازدهار الدعوة، وكما يقول العلماء "الشارع متشوف للحرية".

وقد أرسى الإسلام أساسا فلسفيا متينا لحقوق وحريات الناس لا يدور مع الأهواء، فالحرية ليست إذنا للناس أن يفعلوا ما يشاءون، ولكن الحرية التي ابتغاها الإسلام أن يتحرر الإنسان من الأهواء والجهالات والشهوات والطواغيت والشياطين، وكما يقول "محمد إقبال": "المؤمن كلما ازداد عبادة لله ازداد نفوذه على نفسه وعلى الكون، حتى يصبح قدر الله الغالب، وحكمه الذي لا يرد".

والرؤية الإسلامية تؤكد أن الحرية ليست صكا ممنوحا، ولكنها أمانة وتحتاج إلى مجاهدة ووعي والتزام، فهي أمانة بمعناها الأخلاقي، وليست مجرد القدرة التكوينية على ارتكاب الخير والشر، وأمانة الحرية مرتبطة بأمانة الاستخلاف، وكما أشارت آيات في القرآن الكريم خاصة سورة "البينة"، فالإنسان ما كان له أن ينفك عن قيود العبودية ويكتسب حريته لولا نزول الوحي، والإنسان لم يُخلق حرا، وإنما خلق ليكون حرا، أي أن الحرية أمر كسبي، وتحتاج إلى كدح في سبيل تحقيقها .

أما على الصعيد التشريعي فإن تحقيق وحفظ الحريات العامة يعد الهدف الأساسي من بعثة الرسل، إذ جاءت الشريعة لحفظ مصالح العباد، وإقامة النظام الإسلامي العادل يمثل الإطار العام للحريات والحقوق في الإسلام، ونعني بحرية الإنسان والمواطن: الخلاص من كل سيطرة وتحكم في تفكيره ووجدانه وحركته سواء أكانت من هوى جامح أو حاكم مستبد أو رجل دين متسلط أو رأسمالية جشعة.

أهم حريات الإنسان في التصور الإسلامي:

- حرية المعتقد: وهي أساس الحريات والحقوق، وقد قطعت به الآية الكريمة بشكل حاسم "لا إكراه في الدين" (البقرة:256)، ويترتب على ذلك القبول بالتعدد الديني والثقافي.

- الحريات السياسية: وتتعلق بحق المواطن في المشاركة في الشؤون العامة، انطلاقا من الآية الكريمة "وأمرهم شورى بينهم" (الشورى:28) أي أن السياسات الكبرى المتعلقة بالشؤون العامة لا يحل أن يكون التقرير فيها اختصاصا لفرد أو مجموعة، وإنما هي موضوع للمناقشات العامة لفرز إجماع يكون حكما، ويترتب على ذلك الحق في تكوين الأحزاب، وحرية الصحافة، والمشاركة في الانتخابات العامة، وتولي المسؤوليات، والتداول على السلطة عبر الانتخابات.

- الحريات الاجتماعية: وتتعلق بانتماء الفرد إلى الجماعة، إذ إن الانتماء يرتب على كل منهما حقوقا وواجبات.

- حريات غير المسلم في الدولة الإسلامية: ويتمتع غير المسلمين في الدولة الإسلامية بحقوق المواطنة وفي مقدمتها المساواة مع المواطنين المسلمين، ويستثنى من ذلك الوظائف ذات الشأن الديني كرئاسة الدولة والإفتاء.

ويؤكد الغنوشي أن الإسلام لا يلغي كسب العلمانية الغربية فيما أنجزته من تحرير للعقل، وإبداعات علمية وتقنية وديمقراطية، لكن الإسلام لا يجعل من تلك المنجزات تسلطا على روح الإنسان وتدميرا للعلاقة بين الإنسان وربه، أو إطلاقا للفوضى في الكون.

المقاربة الثانية: حقوق الإنسان في الإسلام

تحدث الغنوشي عن حقوق الإنسان في الإسلام حديثا مكثفا، وأشار إلى أن الحديث الدولي عن حقوق الإنسان مَـثَّله الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948، ولواحقه في الستينيات، ولا شك أن الإعلان ثمرة تطور كبير وطويل للحضارة الغربية، ونتاج لحروب طويلة في أوروبا، وثمرة للفلسفة العقلانية.

وفي الرؤية الإسلامية فإن حقوق الإنسان أصيلة وجاءت لمصلحة العباد، وأخص هذه الحقوق العدل بين الناس، وينطلق المفهوم الإسلامي من نقطة مركزية وهي تكريم الله سبحانه وتعالى للإنسان على سائر المخلوقات بالعقل والإرادة والمسؤولية، فالإنسان هو خليفة الله في أرضه.

وتذهب الرؤية الإسلامية إلى أن الدين والعقل والإنسان والكون كلها مخلوقات لله سبحانه وتعالى، فلا تصادم بينها أو تناقض، فهناك انسجام وتعاون وتوافق شريطة الالتزام بالتحرك الإسلامي، كذلك فإن الإنسان عندما يكتسب الكرامة الذاتية فهي من خالقه سبحانه، وليست تفضلا من أي أحد من المخلوقات، كما أن الحقوق التي يكتسبها، مثل: حق الحرية أو العدل أو الأمن أو الطمأنينة أو التعليم أو حقوقه السياسية، فهي حقوق يفترض أن يطالب بها لكونها تكاليف شرعية، فهي واجبات يأثم إن تركها أو فرط فيها، ومقاصد الإسلام التي وضعها الإمام الشاطبي في كتاب "الموافقات" وهي حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، وضع الإسلام شرائع لإقامتها، وشرائع أخرى لحفظها، ويشكل كل هذا إطارا لاستيعاب جل الحقوق الإنسانية المعروفة.

أهم حقوق الإنسان في الإسلام مقارنة بمثيلاتها في الإعلانات الحديثة:

- حق الحرية: فهي أحد أسس الاستخلاف الإنساني، فلا مسؤولية مع الإكراه، لذا كان رفض القرآن شديدا لمسألة الإكراه في العقائد والإيمان.

- حرية العقيدة، وما تقتضيه من حرية الفكر والتعبير، ومن القضايا التي يثيرها حق حرية العقيدة مسألة الردة، وفيها تثور مسألتان: الأولى: طبيعة جريمة الردة، هل هي جريمة عقيدية تتمثل في الخروج من الدين بعد الإيمان، أم هي جريمة سياسية تتمثل في الخروج المسلح على الدولة الشرعية؟ ومن هنا وقع الاختلاف في عقوبة المرتد: هل هي الحد المنصوص عليه، وهو القتل، أم هي عقوبة تعزيرية يحددها الإمام، أي الدولة. واختلفوا هل تجوز توبة المرتد، أم لا تجوز، وهل تقتل المرتدة كالمرتد أم لا؟

وقد ذهب جمهور العلماء إلى اعتبار الردة حدا ملزما جاء النص عليه في السنة وأجمع عليه المسلمون، غير أن عددا من المفكرين السياسيين لم يروا في الردة جريمة اعتقاد وحدا من الحدود، وإنما جريمة سياسية تتمثل في الخروج المسلح على الدولة الإسلامية العادلة، ومتروك للإمام أمر معالجة الردة في صورتها العقدية بما هو مناسب من وسائل التعزير، ولقد عفا النبي والخلفاء من بعده عن بعض من تابوا بعد ردتهم.

وتناول الغنوشي عددا من نقاط التشابه بين مبادئ الإسلام، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، منها:

- الحقوق الاجتماعية: والمقصود بها ما يحتاجه الفرد في معاشه ورُقيه، وهي حقوق لم تكن محل اهتمام الدساتير والإعلانات الغربية إلا في وقت متأخر، وتحت الضغط السياسي للشيوعية، أما في الإسلام فإن الحقوق لا تضمنها موازين القوة، وإنما تتأسس على الإيمان بالله، ويمكن إبراز هذه الحقوق المترتبة على الانتماء إلى المجتمع المسلم، سواء أكان المواطن مسلما أو غير مسلم، على النحو التالي:

- حق العمل للقادرين والضمان لغيرهم، حيث أبطل الإسلام الاستغلال في كافة صوره وأشكاله، وقدس العمل وأبطل الكسب غير المشروع.

- حق الرعاية الصحية: اهتم الإسلام بالطب الوقائي، وحث على رعاية المرضى، وأوجب للبدن حقوقا، من تغذية وتنظيف وتجميل، لذا ازدهر في الحضارة الإسلامية المشافي والحمامات والأسبلة.

- الحق في بناء الأسرة: فالزواج عبادة، وأحاط الإسلام الأسرة برعاية كبيرة، وسن العقوبات الصارمة ضد انتهاك العفة والشرف.

- الحق في التربية: حث الإسلام على التربية، وجعل للعلماء مكانة كبيرة، وفرض إلزامية التعليم.

- الحقوق السياسية، ويحيط هذه الحقوق بسياج من الشورى، حيث اقترن في القرآن ورود الشورى بالإيمان والصلاة، ومن مقتضيات تلك الحقوق حرية التعبير والرأي والمعارضة وإقامة الأحزاب.

 


-