الحلقة الثانية من كتاب "مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني" للشيخ راشد الغنوشي، تتناول استعراضا لأسس المجتمع المدني أو الأهلي في الإسلام، حيث تميزت التجربة التاريخية الإسلامية بمجتمعها المدني الذي بناه المسلمون بعيدا عن ضغوط السلطة وإكراهاتها، إذ نهض المجتمع المسلم بمؤسساته التعليمية والصحية والاجتماعية والحرفية، مما خلق شخصية مميزة للمجتمع المسلم لقرون طويلة قبل نشوء الدولة الوطنية - بعد الاستعمار- التي أممت في كثير من الأحيان هذا المجتمع لصالح تفردها في السيطرة على كافة الفضاءات التي كانت تتنفس فيها الأمة، وتصنع وجودها.

المقاربة الثالثة: أسس المجتمع الأهلي في الإسلام

يؤكد الغنوشي أن الحديث عن مجتمع أهلي أو مدني في الإسلام، هو فرع من تصور الإسلام وثقافته لعلاقة الجماعة أو الأمة بالإمام من جانب، وعلاقة الدين بهما من جانب آخر، على اعتبار أن الدين هو الأساس الذي تستمد منه الجماعة فلسفة وجودها، وروابطها، وقيمها، وموازينها، مما يجعل المحافظة عليه المصلحة الأعظم للجماعة المسلمة.

وفي الخبرة التاريخية الإسلامية كان التميز بين أهل الحكم، وأهل الرأي، وعامة الناس لا يكاد يظهر، إذ كان الجميع مندمج في جماعة واحدة، فلم تتميز الدولة بمقرات خاصة بها، بل كانت تُدار من المسجد، فكان مركز القيادة السياسية والدينية للمجتمع، وكان الحكام تحت رقابة الناس ومساءلتهم، لكن مع مرور الوقت أخذ الحكم يستفحل ويستغلظ حتى صار ملكا عضوضا، يستمد شرعيته من القوة، رغم ما أحاط به نفسه من شكلية دينية.

وقد مر تاريخ الإسلام في علاقة السياسة بالدين، وعلاقة الأمة بالدولة، وعلاقة الحكام بالعلماء بالمراحل التالية:

- مرحلة الاندماج بين الديني والسياسي: وكانت الدولة غير متمايزة عن الأمة لا بهيئة ولا بامتيازات، ولا حتى بمقرات، وفي هذه المرحلة النموذجية تمت أعظم فتوحات الإسلام، وتجسد نموذج العدل الإسلامي.

- مرحلة انقلاب الملك على الخلافة: وكانت تلك بداية الصراع بين الدين والسياسة، وكانت المعادلة في تلك المرحلة قائمة على التعايش وتبادل المصالح، وجوهر تلك المعادلة: اعتراف الدين ممثلا في علمائه بشرعية الملك كأمر واقع، مقابل اعترف الملك بسيادة الشريعة وبسلطة العلماء على القيام بأمر تأويل نصوص الدين وتعليمه للناس، والقضاء بينهم وفق أحكامه، وإطلاق يدهم في إشاعته بين الناس.

في تلك المرحلة تم ما يشبه تقاسم الأدوار بين العلماء والحكام، وبين السياسة والدين، وهو ما سلب إلى حد كبير إمكانية السلطة في وضع يدها على الدين، وفي تلك الفترة ركز العلماء على تقوية المجتمع بما ساعد الناس، وقوى قدرتهم في إمكانية الاستغناء عن سلطة الدولة إلى حد كبير، وحصرها في نطاق محدد.. لقد كانت تلك مرحلة ولادة المجتمع المدني تلافيا للاختلال الحاصل في مستوى السلطة، وحدا من تغولها ومظالمها، وتعويضا لنواقصها، وسدا لثغراتها، وتوفير لمجالات الإبداع والنمو خارجها.

لقد أمكن للمجتمع المدني أو الأهلي الإسلامي أن يحقق أعظم ازدهار، ويضمن قدرا كبيرا لاستمرار الأمة وقدراتها، رغم ما تعرضت له الدولة من اضطرابات وانقلابات.

- مرحلة غلبة السياسة على الدين، وغلبة الحكام على العلماء بما أضعف نصيب العلماء في الشراكة مع توالي الزمن، انتهاء إلى إخراجهم من تلك الشراكة، بما حول العلماء إلى مجرد موظفين لدى الدولة، وحررها في ذات الوقت من سلطان الأمة.

وفي تلك المرحلة دمر الاستعمار -ومن بعده الدولة الوطنية التي نشأت بعد رحيله- الأسس الفكرية والتنظيمية للمجتمع المدني الإسلامي، من أجل إحكام سيطرتها على الدين والدولة والأمة، فتم الاستيلاء على سلطة التشريع والقضاء، وتأميم الوقف وتفكيكه، كسبيل لتفكيك بنية المجتمع التقليدية من قبائل وطرق صوفية وروابط حرفية، حتى تحول المجتمع هباء منثورا أمام تغول الدولة التي حدثت من أساليبها في مجال الضبط وأدواته، واستخدمت القمع الوحشي، وفي تلك المرحلة عاشت الأمة مرحلة التهميش للدين والعلماء لصالح مركزية الدولة، وأصبحت شرعية الدولة تأتي من الخارج وليس من داخل الأمة.

وفي التجربة الأوروبية ظهرت فكرة المجتمع المدني مقابلا ونقيضا للسلطة الدينية المسيحية، فقد نشأ المفهوم في مناخات الصراع مع الكنيسة وأنموذج الدولة الشمولية تواصلا مع الديمقراطية وحرية الفرد وتشجيعا لمبادراته باعتباره الأصل، وحدا من تمدد الدولة والكنيسة معا بعد أن تم تحرير الدولة باعتبارها نشاطا دنيويا محكوما بالعقل والقانون، وبعد أن انتقلت إليها فكرة السيادة المطلقة التي كانت للكنيسة باعتبارها تجسيدا للمسيح الذي تجسد فيه الرب، ومن هنا اتجه نضال الشعوب الغربية إلى تحرير الإنسان والمجتمع والدولة من الهيمنة الساحقة للمقدس.

أما في الحالة الإسلامية فقد اتجه نضال الشعوب إلى تحرير الإنسان والمجتمع والدين من هيمنة الدولة الحديثة التي سحقت المجتمع، ومن ثم فإن مفهوم المجتمع المدني راسخ متين لأنه متفرع عن طبيعة الإسلام الحضارية والتمدينية، وتحقيق لرسالة الإسلام في الانتقال بأهله من حالة البداوة إلى حالة المدن والحضارة، لذا لم يكن غريبا أن يُطلق على أول تجمع للمسلمين بعد الهجرة لفظ "المدينة" كنقيض لحالة البداوة والجاهلية.

وما يميز العلاقة بين الدولة والمجتمع في التجربة الإسلامية أنها لم تعرف مرحلة التأزم، وذلك بالنظر إلى العوامل التالية:

- أن العقيدة الإسلامية قامت على مبدأ التوحيد، وهو ما يمنع أي اعتقاد حلولي لدولة أو كنيسة أو حاكم أو شيخ، وبالتالي انتفت الصفة الاستبدادية المستندة إلى سلطة دينية، كما أن منطق التوحيد يفرض على السلطة أن تستلهم قيمها من سلطة تعلوها، ما يجعل الجميع خاضعا أمام تلك السلطة العليا.

- التصور الإسلام للإنسان ينطلق من مبدأ التكريم الإلهي للإنسان، وأن الإنسان خليفة الله في الأرض، وأنه مسؤول عن أفعاله، وأن الخالق سخر الكون للإنسان. 

- عقيدة الاستخلاف تقدم قاعدة متينة للمساواة بين الناس باعتبارهم جميعا مخلوقات لله، وكما جاء في الحديث "الخلق عيال الله"( ) وهو ما ينسف كل أساس عرقي أو جنسي أو قومي للتفاضل بين الناس، كما أنها عقيدة تضبط الإنسان بين أبعاده الروحية والمادية، وتضبط توازنه بين الدنيا والآخرة.

- التصور الإسلامي يلغي كل تميز تفاضلي ضد النساء، فالنساء شقائق الرجال، خلقن لأداء نفس الغاية في عمارة الكون.

- التصور الإسلامي يقدم أساسا لوحدة الإنسانية باعتبارها الأصل، ووحدة الرسالة الإلهية، مما يلغي أي أساس للاضطهاد الديني، وللتعالي القومي.

- يقدم التصور الإسلامي سندا لقيام سلطة في الجماعة تقوم على خدمتها وإنفاذ شريعتها، ومن هنا يصبح الاستخلاف في المجال العام هو للأمة وفق التوجيهات الإلهية.

- الجماعة أو الأمة تظل هي المستخلفة صاحبة السلطة تمارس مهمة الاستخلاف مباشرة، من خلال قيامها بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالدولة ليست سوى أداة من أدوات الجماعة الكثيرة في القيام برسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويعد الوقف أحد أهم مشروعات الأمة للقيام بواجباتها ورسالتها، فهو أهم مصدر لسلطة الجماعة، واقتدارها على تمويل المبادرات الفردية والجماعية، فالوقف ثمرة للتصور الإسلامي والتربية الإسلامية بما يخرج المؤمن من أنانيته.

والحقيقة أن الدولة تحولت في يد المحتل -ومن بعده المستبد- إلى أداة لتفكيك المجتمع والسيطرة عليه وسلب سلطاته كجماعة وأفراد، ومن عناوين تلك السيطرة تنحية الشريعة، وإبعاد سلطة المحاكم الشرعية، وتأميم الوقف والمساجد.

ويؤكد الغنوشي أن هناك خطة لضرب المجتمع المدني، وتدمير القاعدة الاجتماعية للإسلاميين، تطبيقا لخطة "تجفيف المنابع"، وتقدم التجربة التركية والتونسية أنموذجا لدولة الحداثة العلمانية في حجم العنف الهائل الذي ظلت تمارسه لتفكيك المجتمع الإسلامي وفرض إلحاقه بالخارج وقمع كل مبادراته.

المقاربة الرابعة: مفهوم المساواة بين الشريعة ومواثيق الأمم المتحدة.

ينطلق الغنوشي من تصور أنه لا يوجد أدنى تناقض بين الشريعة الإسلامية وبين قانون عقلي أو قيمة إنسانية أو مصلحة حقيقية للإنسان شهدت لها التجربة. وكل تناقض من هذا القبيل هو موهوم ينبغي رفعه وقوفا مع ما هو ثابت ويقيني مما دل عليه الوحي أو العقل أو التجربة، وهذه القناعة يراها من أهم أصول المنهج الإسلامي في المعرفة، ويؤكد أنه رغم اختلاف الأصول الفلسفية لحقوق الإنسان ومنها حق المساواة بين الشريعة الإسلامية وبين المواثيق الدولية فإن مجالات اللقاء هي الأوسع؛ بل هي السمت العام لهذه العلاقة.

ويؤكد أن حركة التجديد والاجتهاد لم تنقطع في التجربة الإسلامية حتى في زمن وجود الاحتلال، وتحدث عن مفهوم المساواة، حيث أكد أن علماء الإسلام نظروا للمساواة على أنها أصل من أصول الشريعة، ورغم أن لفظ المساواة ورد في نصوص قليلة في الكلام النبوي، إلا أن معانيه مبثوثة في الكثير من الأحاديث حتى غدت أصلا من أصول الشريعة وليست مجرد حكم فرعي أو جزئي.

وفي التصور الإسلامي فإن العدل ليس له معنى آخر غير المساواة، بل المساواة معناه الأصلي، لذا جسدت عبادات الإسلام معاني المساواة بكافة أشكالها، ويتجلى ذلك في فريضتي الصلاة والحج إذ لا تمييز بين الناس.

والحقيقة أن مبدأ المساواة يتعامل مع تعقيدات الواقع، مهتديا بمبدأ العدالة، وهو أشمل من مبدأ المساواة وذلك عند اختلال قاعدة التماثل في الوضع القانوني، وفي موضوع المرأة تتأسس العلاقة على قاعدة المساواة، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم- "النساء شقائق الرجال"( ) غير أن الإسلام في سياسته الواقعية يقبل التمييز على أساس الجنس في حالات استثنائية محددة رعاية للاختلافات البيولوجية وانسجاما مع تصوره لأولويات الأدوار في المجتمع الإسلامي، كأولوية الدور التربوي للمرأة على الدور الاقتصادي.