في هذا المقاربة يتحدث الشيخ راشد الغنوشي عن المجتمع المدني بين الغرب والإسلام، ويؤكد أن فكرة المجتمع المدني أصيلة في الإسلام، رغم حداثتها في المجتمع الغربي، إذ عرف المسلمون في تجربتهم التاريخية مجتمعا قويا يتمتع بقدر من الاستقلال عن الدولة في إدارة شؤون وتدبير أموره، ولعبت الأوقاف دورا مؤثرا في تقوية الخير الأهلي في المجتمع وإنشاء الكثير من المشافي وأماكن البر والرعاية للفقراء وإنشاء المدارس.
وفي هذه الحلقة يفصل الغنوشي الالتصاق القصري بين العلمانية والحداثة وبين فكرة المجتمع المدني، إذ إن العلمانية والحداثة لا يمكن أن تنشآ أخلاقا نظرا لأنهما تقومان على الفردانية والنفعية، والمجتمع المدني قائم على نقيضهما ففكرة النفعية تقوض الخير، والفردانية تخلق الأنانية.
المقاربة الخامسة: فكرة المجتمع المدني بين الغرب والإسلام
المقاربة هي في الأساس إجابة مستفيضة من الغنوشي على سؤال وجهه الدكتور عزام التميمي للشيخ عام 1995، حول مفهوم المجتمع المدني في الإسلام، حيث إن أحد الباحثين الغربيين وهو "إرنست غيلنر"( ) لم يصنف المجتمع الإسلامي ضمن ما تعارف الغرب على تسميته بالمجتمع المدني، ولكن صنفه ضمن طبقات المجتمعات الشمولية.
فجاءت إجابة الغنوشي مستفيضة، وأكد في بدايتها أن المجتمع المدني مصطلح حديث، ويقصد به المجتمع المنظم تنظيما طوعيا إلى حد كبير في تكوينه السياسي، فلا تكون السلطة فيه قاهرة، فهو مجتمع تعاقدي، الدولة فيه وظيفية، مُستخدمة من طرف الشعب لأداء وظائف معينة، أي أنها دولة خدمات موظفة لدى المجتمع، فهو السيد عليها.
وفي هذا المجتمع الدولة لا تحتكر السلطة، وإنما السلطة موزعة بين الحكومة وبين المجتمع، ويكون التوازن فيه لصالح المجتمع. فالدولة لا تحتكر أرزاق الناس، فالملكية خاصة، والسوق حرة، والمدارس حرة، ولا تحتكر فيه الخدمات الاجتماعية والثقافة، فالمجتمع ينتظم ذاتيا دون حاجة إلى إذن من الدولة من أجل انتظامه، فإن انهارت الدولة أو تخلخلت لا ينهار معها المجتمع، بل تظل مصالحه قائمة عبر هيئات تُدار باستقلال عن الدولة وبحرية وديمقراطية، فتلبي بذلك حاجات الناس على نحو لا يجعل المجتمع كسيحا مفتقرا للدولة في كل شيء.
والتجربة التاريخية تثبت أن الدولة الشمولية التي تبتلع المجتمع أثبتت فشلها على كل المستويات، وهو ما أعاد للمجتمع المدني اعتباره، ويتأسس المجتمع المدني على حس مدني، وعلى فلسفة للتربية تجعل احترام القانون تلقائيا، فثمة شعور بالواجب، وبالحاجة إلى التعايش مع الآخرين. فالمجتمع المدني هو مقابل المجتمع الطبيعي، والمدنية هي الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة السياسية.
وقد تكون فكرة المجتمع المدني قد طرحت في الغرب مقابل المجتمع الديني، حيث ولدت الفكرة في ظل الصدام بين الكنيسة والدولة، وقد طرح المتأثرون بالثقافة الغربية في العالم العربي فكرة المجتمع المدني كأداة لحرب الإسلاميين بعد أن أضفوا على المجتمع المدني بُعدا معاديا للدين، وبعدما ربطوا بين العلماني والمدني، وبين المدني والديمقراطي، وهو ما عرض مفهوم المجتمع المدني لأدلجة، رغم أن نشأة المفهوم تشير إلى أن آباءه المؤسسين استخدموه كأداة للحد من استبداد الدولة وسلطتها ومنع تركزها.
والتجربة الغربية تكشف أن المؤسسة الدينية -حاليا- في الغرب من أكبر مؤسسات المجتمع المدني وأغناها، فهي منظمة ذات استقلال عن الدولة، وتحقق توازنا معها.
أسس المجتمع المدني في الإسلام
ويتطلب المجتمع المدني وجود مؤسسات شعبية منظمة مستقلة عن الدولة تحقق توازنا وتكاملا معها بما تملكه من تأثير مادي وروحي على الناس، فالمدنية هي انتقال من شرعية القوة والضرورة إلى حكم القانون، والمجتمع الإسلامي المؤسس على الاختيار الصرف هو مجتمع مدني، والعلاقة بين المجتمع والدولة فيه تقوم على البيعة، أي على عقد حر يستمد منه الحاكم سلطته، وهي سلطة محدودة بالشريعة.
ويؤكد الغنوشي أن فكرة الديمقراطية -أي فكرة الاختيار- تلتقي التقاء تاما مع فكرة الإسلام، فالدين لا تحتكره مؤسسة، وإنما يظل مصدرا للإلهام والتوجيه، فمثلا المذاهب الإسلامية اختارتها المجتمعات بعيدا عن إكراه الدولة، على اعتبار أن المذاهب هي اجتهادات ومشاريع مجتمعية منبثقة عن الإسلام، وتفاعلت مع أوضاع مجتمعات معينة، فإذا تغيرت تلك المجتمعات تغيرت معها تلك الاجتهادات.
وفي التجربة التاريخية للمجتمع الإسلامي نجد انتشارا لمؤسسات المجتمع التربوية والاجتماعية والثقافية المستقلة عن الدولة، فمثلا نظام التعليم كان يعتمد على الأوقاف والتمويل الشعبي الحر.
وتحتل العقيدة في المجتمع المدني الإسلامي أساسا مركزيا، بتأكيدها على المساواة بين الناس، فالمجتمع الإسلامي بقدر التزامه بالإسلام، بقدر ما تقل حاجته للدولة لدرجة إمكانية تصور غيابها إذا تم قيام العدل بدونها، وإذا كان لابد من الدولة فبأقل ما يمكن فيها.
والإسلام يطلب من المسلم أن يستشعر المسؤولية تجاه مجتمعه، وتلكم فكرة أساسية في المجتمع المدني، كذلك فإن الشريعة تأمر المسلم بالتمرد على الاستبداد ومقاومته، بينما فكرة الثورة لا ترد في الديمقراطيات، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقاومة الظلم تدعم الفرد والمجتمع المسلم، بما لا يترك مجالا كبيرا لفكرة موازين القوى أن تبرر السكوت على الظلم.
ويؤكد الغنوشي أن المجتمع المدني هو الذي يتأسس على العدل، وعلى الانتماء الطوعي، وعلى قيمة المساواة، والنظر للإنسان باعتباره إنسانا قبل أي اعتبار آخر، فالإنسان في الرؤية الإسلامية مستخلف في الأرض، وأن الاختلاف بين البشر يجب ألا يكون مبررا للظلم والعدوان، ومن ثم فالعدل مبدأ يتجاوز الإطار القومي والديني، فالعدل واجب مع القريب والبعيد، ومع المؤمن وغير المؤمن، حتى ولو كان عدوا، وهذا على خلاف المجتمع المدني الغربي المؤسس على العنصرية والقومية، أي على نفي الآخر، ومن هنا فالمقاييس التي تطبق داخل الحدود الوطنية ليست هي التي تطبق خارجها، وهو ما يشبه مجتمع الحشرات كالنمل والنحل، فالتضامن قائم على أساس الغريزة لا على أساس الانتماء الفكري أو الإنساني.
إن نفي الآخر شديد العمق والتغلغل في الموروث الغربي في كل مراحله الإغريقية والرومانية والمسيحية وحتى الآن، وحتى في فكر عصر النهضة والإصلاح فلم يشهد الأمر تغيرا جذريا، بل أسس فكر الأنوار للمركزية الغربية، واعتبر تصوراته للإنسان والمدنية والحداثة هي التصورات الممكنة والوحيدة، بما يشرع للهيمنة على الآخرين، وعلى مواردهم باستخدام حروب الإبادة، فليس من مكان حقيقي للإنسان وقيمه، وإنما للمواطن الغربي، لذا لم يكن الضمير الذي تربي على فكر النهضة والأنوار يصيبه وجع أو تأنيب إزاء حروب الإبادة التي شنها الأوروبيون على غيرهم من الشعوب والحضارات والديانات الأخرى، ومن ثم فإن مقومات المدنية والإنسانية والاعتراف بالآخر واحترامه في المجتمع الإسلامي، هي أقوى وأرسخ وأوسع من مقومات التمدن في أي مجتمع آخر.
إن مقومات المدنية في التصور الإسلامي تقوم على تعاقد أولي بين الإنسان وخالقه سبحانه وتعالى، ومن هذا التعاقد الأولي ينبثق التعاقد الاجتماعي لإنشاء نظام اجتماعي مفتوح لكل البشر ويتساوى فيه الجميع.
وتلعب فكرة التقوى في التصور الإسلامي دورا في احترام التشريعات والقانون، فهي تخلق ضميرا ووازعا داخليا بجانب العقوبة التي ينص عليها الشرع أو القانون، فالمسلم يمتنع عن الحرام والإثم ليس لحضور الرقيب أو كاميرات المراقبة، ولكن لحضور الله تعالى في اعتقاده وتصوره.
ومن هنا نستطيع تعريف المجتمع المدني تعريفا آخر، فنقول إنه المجتمع الذي يتأسس على معادلة "لا يؤمن أحدكم حتى يجب لأخيه ما يحب لنفسه"، فهو مجتمع يتأسس على ثمرة حضور الله في حياة المسلمين، ثمرة لنداء ووعي الضمير، وعمق الإحساس الديني والإنساني: "ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء"، فالمدنية هنا معناها الحقيقي: هو التحرر من الأنانية، فأنت مدني بقدر خروجك عن ذاتك، وبقدر تحررك من اندفاعاتك الغريزية ومن شهواتك، أي تقاس مدنيتك بقدر المسافة التي تخرج بها عن ذاتك.
لماذا نفعل الخير؟
الأخلاق في عمقها وحقيقتها هي تحرر من الأنانية، وفي المفهوم الليبرالي فإن الإنسان يفعل الخير لأنه يجلب إليه المنفعة، أو لأنه يجنبه ضررا، أما الإسلام فيعترف بهذا البعد، ولكنه يضيف إليه بعدا آخر يتجاوز هذه الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة، ومن ثم فالإيمان بالآخرة ركن رئيس في المجتمع الإسلامي.
وتنتهي فلسفة "كانط"( ) الأخلاقية بأنه لا يمكن أن تتأسس حياة أخلاقية إلا على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر، إلا أن "كانط" وقع تهميشه من طرف الفلسفة المادية واعتبر مثاليا، فالإيمان بالله واليوم الآخر والأخوة الإنسانية أفكار محورية في تأسيس المجتمع المدني الإسلامي، ولذلك تزيد مدنية المجتمع بقدر ما ينفسح معنى الحياة في ذهن الإنسان، فلا تقتصر فرصة الحياة على عمره المحدود وإنما تأخذ معنى اللانهاية، لذا تزداد فرص التضحية والتحرر من الأنانية، وعلى قدر ذلك التحرر يزدهر العمل الطوعي في المجتمع، وهو أساس ازدهار المجتمع المدني عدلا واستغناء عن السلطة، ومن أمثلة ذلك أن ثلث الملكية الزراعية في تونس كانت وقفا على أعمال البر والخير.
لقد أرادت المسيحية والفلسفة المثالية أن تحرر الإنسان من فكرة المنفعة، مفترضة أن العمل من أجل المنفعة ليس أخلاقيا، وأن الفعل الأخلاقي هو الفعل الذي لا يرجو منفعة، أما الإسلام فجمع بين المثالية والواقعية، فلم ينكر طبيعة الناس التي تعمل الخير الذي يجر منفعة عليهم أو تجنبا لمضرة، أو القلة التي تعمل الخير بلا انتظار لنفع أو دفع لضرر.
ونستطيع أن نقول إن العلمانية لا تعتبر فكرة مساعدة على نشأة المجتمع المدني، رغم ما قدمته من إنجاز للعقل والحضارة الغربية، وذلك لأنها قامت على أساس المركزية الغربية ومركزية الدولة واختزال الإنسان في بعد واحد.
والحقيقة أن تفجر النزعات الشهوانية والأنانية والعنصرية والغريزية، إضافة إلى مركزية الدولة كل ذلك معاول هدم في المجتمع المدني، لأن المدنية الحقة لا تنفصل عن الأخلاق، فحركة العلمنة والحداثة انتهتا إلى حصيلة من التسلط والاستبداد، فالعلمانية انتهت إلى الليبرالية المتوحشة، وهي صفة لصيقة بالأنانية والفردانية، وهذا من شأنه في النهاية القضاء على فكرة المجتمع المدني، وحتى على فكرة المجتمع ذاته الذي يتحول إلى جزر معزولة.
لقد حررت العلمانية الإنسان من فكرة الكنيسة الظالمة، لكنها في النهاية حررته من الإنسانية، العلمانية حررت عقل الإنسان وطاقاته وأعادت له القدرة على الإبداع والكسب، لكن في النهاية صنعت منه وحشا أنانيا يريد تسخير كل شيء من أجل ذاته، لذا ففكرة العلمانية في النهاية هي ضد المجتمع المدني، بل هي موت الإنسان، ولذلك نجد المجتمعات الليبرالية تزداد توحشا بقدر ما ينقص النهب الخارجي الذي يخفف من عوامل الصراع الداخلي.
لا يوجد في إطار العلمانية والفلسفة المادية حل لمشكلة التوفيق بين الغيرية التي يقتضيها لمجتمع المدني، وبين ما فطر عليه الناس من أنانية، إلا في إطار ديني يوسع مساحة الحياة ولا يجعلها تقتصر على فرصة العمر المحدودة، ويبني نظاما للعدالة يتجاوز العدالة الأرضية ذات النفوذ المحدود، لصالح عدالة إلهية تطمئن إليها الضمائر.