شخصية ذات أهمية كبيرة في التاريخ السوري الحديث، زعامة جمعت بين العلم الشرعي والتعليم الغربي الحديث، وبين النضال من أجل الاستقلال والحرية، وبين الحكم وممارسة السلطة والمعارضة.. جلس على مقعد الوزارة، وعلى أرض الزنزانة، فلم تعرف مبادئه وأفكاره التبدل والتغير، كان منفتحا دون أن يفقد هويته الإسلامية، كان مؤمنا بالحرية رغم توالي الانقلابات العسكرية، عاش نصف عمره في سوريا، والنصف الآخر خارجها، كان يجيد الإمساك بالقلم للتأليف، كما كان خطيبا مفوها، وسياسيا ذا دهاء.

ذو الثقافتين

ولد محمد معروف بن محمد رسول الدواليبي في مدينة حلب، في (29 مارس 1909م)، في أسرة متواضعة، يرجع نسبها إلى الصحابي الجليل فيروز الديلمي(1)، وتلقى تعليما متنوعا في حلب بين المدارس الأجنبية والشرعية، فأمضى في مدرسة الفريرات، وهي من المدارس الأجنبية الفرنسية المنشأة في سوريا، سنة كاملة، وانتقل بعدها إلى الثانوية الشرعية التي سميت فيما بعد "المدرسة الخسروية"(2).

شارك الدواليبي في الكتلة الوطنية التي أسسها الزعيم السوري "هاشم الأتاسي"، والتي لعبت دورا وطنيا في الحيلولة دون مشروع الانتداب الفرنسي عام 1925 بتقسيم سوريا إلى ثلاث دويلات، وكان الدواليبي معمماً ويلقب بالشيخ "معروف الدواليبي"، وخاض مع الكتلة الوطنية نضالها الوطني ضد الفرنسيين، وكان من خطباء الجمعة في الجامع الكبير بحلب، وكانت خطبه ذات مضمون سياسي يحرض فيها السوريين على مقاومة الاحتلال الفرنسي.

تخرج في كلية الشريعة بالجامعة السورية عام 1927، وكذلك تخرج في كلية الحقوق عام1935بتفوق، ما جعل وزارة المعارف السورية توفده لاستكمال دراساته العليا في جامعة السوربون عام 1939، ولم يكد يستقر في باريس وجامعتها، حتى فاجأته الحرب العالمية الثانية، وأغلقت دونه طرق العودة إلى وطنه، فمكث هناك إلى ما بعد انتهاء الحرب، وحصل على درجة الليسانس في القانون الروماني، ودبلوم في الحقوق الكنسية من الجامعة نفسها.

ثم حصل على درجة الدكتوراه في الحقوق عن أطروحته التي كتبها باللغة الفرنسية حول "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية"، وتزوج من فرنسية مسلمة، وساهم أثناء وجوده في فرنسا في تهريب الشيخ أمين الحسيني، الذي اعتقله الفرنسيون أثناء هروبه من ألمانيا بعد هزيمتها، حيث وضع صورة الشيخ أمين على جواز سفره، وتم تهريب المفتي إلى القاهرة، وعقب عودة الدواليبي إلى سوريا، عين أستاذاً في الجامعة السورية بدمشق عام 1947، لكنه ترك التدريس لينشغل بالهمّ السياسي العام، ويخوض الانتخابات ويصارع الانقلابيين الذي أصروا على وأد الحريات والحياة النيابية في سوريا.

بين الوزارة والسجن 

كانت البداية السياسية للدواليبي عام 1938م، عندما أوفدته "الكتلة الوطنية السورية"(كممثل لسوريا على الاستفتاء على لواء الإسكندرون، حيث انتهى الأمر بضم اللواء إلى الأراضي التركية، وفي (17/4/1947) ينتهي الانتداب الفرنسي على سوريا، ولعب الدواليبي جزءا من الجانب التفاوضي مع الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت للجلاء، إلا أن الكتلة الوطنية التي مثلت السوريين انقسمت في العام 1948 إلى حزبين كبيرين، هما: حزب الشعب الذي ساهم الدواليبي في تأسيسه، والحزب الوطني الذي تولى رئاسته شكري القوتلي.

وفي 30 مارس 1949 يقوم قائد الجيش حسني الزعيم بأول انقلاب عسكري في سوريا، فجمد الحياة السياسية، واعتقل رئيس الجمهورية شكري القوتلي، ورئيس الوزراء خالد العظم، وحل الأحزاب السورية في مايو 1949، وكان حزب الشعب من أكبر معارضي الزعيم، إلا أن خطواته المتسرعة للانفراد بالسلطة أفقدته الحلفاء والأنصار، فانقلب عليه سامي الحناوي في (13/8/1949).

 وسمح الحناوي بعودة الحياة النيابية، فجرت انتخابات الجمعية التأسيسية في نوفمبر من ذات العام، والتي حصل فيها حزب الشعب على المركز الأول، وفاز الدواليبي بمقعد عن حلب بعدما دعمته جماعة الإخوان، إذ كان قريبا منها، مناهضا للبعثيين والشيوعيين، كما شارك في حكومة خالد العظم عام 1950 كوزير للاقتصاد، وممثلا عن جماعة الإخوان في الحكومة، ومن مواقفه المهمة دعوته إلى عقد "معاهدة تعاون مع السوفيت" وشراء السلاح من موسكو، كرد على الانحياز الغربي لإسرائيل، لذا لقب بـ"الشيخ الأحمر".

ومع انقلاب أديب الشيشيكلي (19/12/1949)، عُرفت تلك الفترة في السياسة السورية بالحكم المزدوج، حيث كان يمثل السلطة رئيس مدني هو هاشم الأتاسي، بينما العسكريون بقيادة الشيشيكلي يسيطرون على القوة داخل البلاد، وفي هذه الأثناء يُختار الدواليبي لرئاسة مجلس النواب عام 1951، ثم يُكلف في ديسمبر بتشكيل الحكومة السورية، فلم يستشر قائد الانقلاب الشيشيكلي في تشكيلها، بل زاد من عناده مع الانقلابيين بأن احتفظ لنفسه بمنصب وزير الدفاع، فقام الشيشيكلي بانقلابه الثاني في (2/12/1951)، واعتقل الدواليبي ووضع في سجن المِزة العسكري، حيث تعرض لظروف اعتقال قاسية، فلم يغادره عناده، إذ أصر أثناء التحقيقات العنيفة التي أجريت معه أنه الرئيس الشرعي للحكومة السورية.

استمر الحكم العسكري المباشر للشيشيكلي ستة أشهر، ثم نصب نفسه رئيسا لسوريا في (10/8/1953)، لكن في (25 فبراير 1954) يقع انقلاب عسكري ضد الشيشيكلي، وعندما عادت الحياة السياسية إلى سوريا وأطلقت الحريات عاد الدواليبي إلى السلطة وتولى وزارة الدفاع في حكومة صبري العسلي، وكانت خصومة الحكومة مع الانقلابيين من العسكريين شديدة، فاضطرت إلى الاستقالة بعد أقل من أربعة أشهر من تشكيلها.

وبعد فشل الوحدة المصرية السورية، عاد الدواليبي إلى السياسة من جديد بعد فوزه في أول انتخابات تشريعية بعد الانفصال السوري عام 1961، وسرعان ما شكل الوزارة في سبتمبر من نفس العام، واحتفظ فيها لنفسه بحقيبة الخارجية، وأثبت كفاية كبيرة، وبعد الانقلاب العسكري في (8/3/1963) واستيلاء حزب العبث على سوريا، تعرض الدواليبي للاعتقال هو وحكومته، وحرم من ممارسة حقوقه السياسية، ولم يجد سبيلا إلا مغادرة سوريا نهائيا، بعد إدراكه لتعطش العسكريين للسيطرة على السلطة، وقمع أي معارضة.

عندما تولى الملك فيصل الحكم في السعودية عام 1965 أرسل إلى الدواليبي ليكون مستشاره في الديوان الملكي، وكان قريبا للغاية من الملك فيصل، إذ كان مستشاره ونديمه، واستمر مستشارا في الديوان الملكي أثناء حكم الملك خالد والملك فهد.

ألف الدواليبي عدة كتب، منها: الحركة التشريعية في الإسلام، ومدخل إلى علم أصول الفقه الإسلامي، والمرأة في الإسلام، والمدخل إلى السنة وعلومها، والإسلام أمام الاشتراكية والرأسمالية، والوجيز في الحقوق الرومانية، ونظريات النقد الأدبي عند العرب، والقومية العربية في حقيقتها، وكتاب عن مذكراته.

توفي في (15 يناير 2004م) ودفن في البقيع في المدينة المنورة عن عمر يناهز الثلاثة والتسعين عاما.