احتلت قضايا حقوق الإنسان موقعها في مؤلفات مدرسة الاعتدال، وجاءت مساهمات المدرسة تأسيسية لصالح فكرة مركزية الإنسان وقضاياها في الرؤية الإسلامية، إذ ربطتها بالمقاصد العليا للإسلام، والتي تمثل حقوق الإنسان في المواثيق العالمية جزءا منها.
رؤية مدرسة الإعتدال
وتميزت الرؤية التي طرحها مفكرو المدرسة بأنهم جعلوا حقوق الإنسان مطالب يجب على المسلم أن يسعى لتحقيقها، وإلا وقع في دائرة الإثم التي يُعاقب عليها شرعا، وهو ما أضفى عمقا عقديا على تلك الحقوق، فـ"الخصوصية الكبرى لمفهوم حقوق الإنسان في الرؤية الإسلامية تتمثل في "الشمول والعالمية"؛ فقد جاءت الشريعة بتقرير كل أنواع الحقوق المدنية والدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية، الجماعية منها والفردية من جهة، وجاء الخطاب من جهة أخرى باحترام هذه الحقوق وحمايتها وضمانها شاملاً لكل بني آدم، أو لكل إنسان بوصفه إنساناً، وبوصفه إنساناً فقط لا أكثر من ذلك ولا أقل"(1)، وبذلك كان التأسيس لحقوق الإنسان في الإسلام منذ اللحظة الأولى لهذا الدين.
وفي التجربة الغربية فإن "أول تمجيد للحقوق الإنسانية في الوثائق الدستورية القومية والعالمية يرجع إلى نهاية القرن الثامن عشر، وكان أول توثيق قانوني اكتسب شهرة عالمية هو "وثيقة فرجينيا للحقوق" سنة 1776، وهو أول إعلان مكتوب يؤسس قائمة ببعض الحقوق الإنسانية الليبرالية بوصفها حقا دستوريا"(2) ثم تكرر الحديث عن فكرة حقوق الإنسان مع الثورة الفرنسية التي أصدرت جمعيتها الوطنية عام 1789، إعلانا لحقوق الإنسان والمواطن من 17 مادة (3).
وبعد فظائع الحرب العالمية الثانية بدأ التفكير في إصدار مبادئ لحقوق الإنسان، وأقرت الأمم المتحدة في 10/12/1948 (4) "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" (5) الذي يقع في (30) مادة، ثم أُلحق به عدد من الاتفاقيات، وأثناء مناقشات الأمم المتحدة لهذا الإعلان، التي استمرت أكثر من عامين، بدأت محاولات لتأصيل تلك الحقوق على ضوء الإسلام وتعاليمه، وكتب الأديب "أحمد حسن الزيات" مقالا مهما في مجلة الرسالة بعنوان "كيف أعلن محمد حقوق الإنسان" أكد فيه أن "الحقوق الطبيعية التي كفلها الإسلام للإنسان على اختلاف ألوانه وأوطانه وألسنته أعلنها محمد بن عبد الله منذ ثلاثة عشر قرنا ونصف، والأمر يومئذ للجهالة، والرأي للضلالة، والحكم للطغيان"(6).
أهم كتابات مدرسة الإعتدال
ويمكن القول بأن من أوائل الكتب التي تناولت حقوق الإنسان المعاصرة كتاب "أين الإنسان؟"(7) لحكيم الشرق الشيخ طنطاوي جوهري(8)، والكتاب يتحدث عن السلام العالمي، لكن عمقه هو قضية المساواة بين البشر، وعدم التفاضل بينهم، نظرا لأن الظلم والقهر الناتج عن عدم المساواة هو الذي يبدد السلام، والكتاب كان رسالة الشيخ طنطاوي لمؤتمر "الأجناس العام" الذي عقد في بريطانيا عام 1911، وطبع الكتاب بعدة لغات، والكتاب صيحة فيلسوف ضد اللامساواة بين البشر، والتي هي أصل الشرور في العالم.
ومن الكتب المبكرة لمدرسة الاعتدال في قضايا حقوق الإنسان كتابات الشيخ محمد الغزالي، وخاصة كتابه الرائد "حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة"(9)، وصدر الكتاب عام (1992)، مستعرضا حقوق الإنسان في الإسلام مقارنة بالإعلان العالمي، ويقول الغزالي: "إن آخر ما أملت فيه الإنسانية من قواعد وضمانات لكرامة الجنس البشري كان من أبجديات الإسلام، وإن إعلان الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان ترديد عادي للوصايا النبوية النبيلة التي تلقاها المسلمون عن الإنسان الأول الكبير والرسول الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم"((10)).
وكانت المساواة هي بداية الحقوق التي تحدث عنها الغزالي، باعتبارها الأصل الذي تنتظم حوله جميع الحقوق، والكتاب يعقد مقارنات بين التجربة التاريخية الإسلامية والتجربة الغربية، ويكشف عن معاناة كبيرة للإنسان في التجربة الأوروبية على مدار قرون طويلة قبل النمو التدريجي لحقوق الإنسان، على خلاف الإسلام الذي أقر منذ لحظته الأولى مثلا الحق الكامل للمرأة في حريتها الدينية، فـ"الحرية الدينية مكفولة للمرأة كفالة مطلقة، مثلها مثل الرجل، وقد أباح الإسلام أن تبقى المرأة اليهودية أو النصرانية على دينها وهي زوجة المسلم وأم أولاده"((11)).
ومن الكتابات المهمة في المجال كتاب الدكتور محمد عمارة "الإسلام وحقوق الإنسان: ضرورات لا حقوق" والصادر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت في مايو 1985، والذي يؤكد أن حقوق الإنسان ضرورات فطرية يكفلها الإسلام ويحميها، ومما لفت إليه الكتاب هو رفضه لعدوان بعض الكتاب الإسلاميين على حقوق الإنسان، ورأى عمارة أن هؤلاء يغتصبون إنسانية الشريعة، كما اغتصب المستبدون السلطة، ورأى في ذلك انحرافا وجورا وتبريرا للظلم، لأن الإسلام ارتفع بحقوق الإنسان من مرتبة الحقوق إلى مستوى الضرورات الواجبة، فيقول: "إن الإسلام ليبلغ في تقديس هذه "الضرورات الإنسانية الواجبة" إلى الحد الذي يراها الأساس الذي يستحيل قيام "الدين" بدون توافرها للإنسان"((12) )
ومن الحقوق التي اعتبرها الكتاب ضرورات: الحرية، والشورى، والعدل، والعلم، والاشتغال بالشؤون العامة، والمعارضة، كما فند الشبهات المثارة حول موقف الإسلام من حقوق الإنسان، وميزة الكتاب أنه يحوي مجموعة من النصوص الإسلامية التاريخية التي تؤكد أصالة حقوق الإنسان في الإسلام.
كذلك صدر كتاب مشترك بعنوان "حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة" عن سلسلة كتاب الأمة بوزارة الأوقاف في قطر في أبريل 2002، وفيه تأكيد على "أن حقوق الإنسان في الإسلام إنما شرعت بأصل الخلق، ولم تأت ثمرة معاناة أو مظاهرات أو صراعات بين الحاكم والمحكوم، أو بين العمال وأصحاب المعامل، أو بين الطبقات الغنية والفقيرة، أو ثمرة للثورات والحروب، فانتزعت انتزاعا، وإنما هي مقاصد الدين وغاياته العليا، ورسالة النبوة التاريخية، وأن الصراع التاريخي بين النبوة والكافرين بها هو بين إنكار هذه الحقوق وتقريرها"((13)).
ومن الأبحاث المهمة في الكتاب "إنسانية الإنسان قبل حقوق الإنسان" للدكتور أحمد الريسوني، و"مقاصد الشريعة أساس حقوق الإنسان"، للدكتور محمد الزحيلي، و"إحياء وتطوير مؤسسة الحسبة لحماية حقوق الإنسان".
ومن الدرسات المهمة كتاب الدكتور محمد فتحي عثمان "من أصول الفكر السياسي الإسلامي: دراسة لحقوق الإنسان ولوضع رئاسة الدولة (الإمامة) في ضوء شريعة الإسلام وتراثه التاريخي الفقهي" وهي دراسة كبيرة تقع في (464) صفحة، صدرت 1984، ويرى عثمان أن "تحقق الحريات الأساسية للإنسان والمساواة بين البشر جميعا على أساس العقيدة"((14)) يعطي الحقوق عمقا عقديا قويا، لذا "فالإيمان بالله خير ضمان لحقوق الإنسان من ناحية تقريرها، ومن ناحية إنفاذها وتدعيمها والنضال لأجلها"((15))
وقد أصدر الشيخ راشد الغنوشي كتاب "الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام"، عن مركز الجزيرة للدراسات بالدوحة عام 2012 في 311 صفحة، وتحدث فيما يقارب نصفه عن حقوق الإنسان وعلاقتها بالإسلام، مستندا إلى الأصول التأسيسية للإسلام في القرآن والسنة، ومستعرضا بعض ملامح التجربة التاريخية الإسلامية في حقوق الإنسان، في قضايا: الاقتصاد والمرأة والمجتمع المدني وحرية العقيدة.