كتاب «دعاة لا قضاة» (2)
نستكمل في هذه الحلقة قراءة وتحليل كتاب دعاة لا قضاة, وأهم القضايا والآراء التي تناولها الكتاب في فترة حساسة ومهمة من تاريخ مدرسة الاعتدال المعاصرة, وفي أوضاع سياسية وثقافية مغايرة تماما لنشأة الحركة.
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله
يتناول الكاتب بيان معنى الشهادتين، وأنهما إخبار بما وقع في نفس المسلم من تيقن من وجود ذات الله –تعالى-، وأنه –تعالى- أحدٌ لا إله سواه، ثم ساق خلاف اللغويين والمفسرين حول الأصل اللغوي لكلمة الإله، وهل هو من التحيُّر أو الركون أو الاحتجاب أو الولع أو الإجارة أو الارتفاع، وبيَّن أنه خلافٌ لا أهمية له؛ لأن القرآن الكريم قد أخبرنا بأن أغلب هذه المعاني كان يعلمها ويقرُّ بها كثيرون في الجاهلية. ويقر الكاتب أن الناطق بالشهادتين يعد مسلمًا تجرى عليه أحكام المسلمين وليس لنا أن نبحث في مدى صدق شهادته إذ إن ذلك متعلق بما استشعره واستيقنه بقلبه وهو أمر لا سبيل لنا للشكف عنه والتثبت منه ولكن ذلك من شأن الذي يعلم السر وأخفى فمن استيقن قلبه ما نطق به كان عند الله مسلمًا مؤمنًا ونفعه ما تلفظه بلسانه.
ويوضح الكاتب بطلان القول بعدم إسلام من نطق بالشهادتين إذا جهل مفهومهما؛ وذلك لعدم ورود شرعٍ يفيد الربط بين شيوع معاني الإلهية والربوبية في مجموع من الناس وبين كفاية الشهادتين للحكم لمن نطق بها منهم بالإسلام، فقد أُرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكافة، وقبِل هذه الكلمة من الكافة، وأجرى بها أحكام الإسلام على الكافة بلا تمييز بين العرب وغيرهم، ولا بين الناطقين بالضاد وغيرهم، وقوله: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حَتى يَشهَدُوا أنَّ لا إِلَه إلاَّ الله ويُؤمِنُوا بي وبما جِئتُ بِه»، دليل على ذلك، وقد فتح المسلمون أمصارًا عديدة لا ينطق أهلُها بالعربية، وقبلوا منهم هذه الكلمة، وأجروا بها عليهم شرائع الإسلام، وعصموا بها دماءهم وأموالهم وأعراضهم دون توقُّف ذلك على شرط زائد. ويشير الكاتب إلى بطلان القول باشتراط العمل حتى يُحكم للناطق بالشهادتين بالإسلام؛ للأدلة التي تقطع بالحكم بالشهادتين بالإسلام بمجرد الإقرار بهما دون توقف ذلك على شرط آخر، ولا يعني ذلك أن المسلم لا يرتد إلى الكفر مهما قال أو عمل، بل إن جاء بعملٍ من أعمال الكفر حُكم عليه بموجبه بعد استيفاء ما يلزم لإجراء الحكم بالكفر من الشروط، وكذلك بطلان ما ذهب إليه الخوارج ومن دارَ في فلكهم من المعاصرين من القول بتكفير أصحاب المعاصي، وتقرير مذهب أهل السنة من أن المعاصي من أمور الجاهلية ولا يُكفر صاحبها إلا إذا استحلَّها، وأن هذا لا يعني الاستهانة بالمعاصي أو الاجتراء على الكبائر، فقد كانت دائمًا دعوته لنفسه وللناس: أقيمُوا دعوةَ الإسلام في نفوسكم تقمْ في أرضِكم.
بعض آراء الأستاذ المودودي:
ينقد الكاتب رأي الأستاذ أبو الأعلى المودودي الذي قرَّر فيه أن العرب الأوائل كانوا محيطين بالمعاني الحقيقية لكلمة التوحيد، وأن هذه المعاني قد تقلَّصت فيمن جاء بعدهم من الأجيال المتأخرة؛ لقلة الذوق العربي، ولأنهم لم يكن قد بقى لديهم من هذه المعاني ما كان شائعًا في المجتمع الجاهلي قبل نزول القرآن، ونقده –كذلك- لما رتَّبه بعض الناس على آراء الأستاذ المودودي من أحكام تقضي بعدم كفاية الشهادتين للحكم بالإسلام في واقعنا المعاصر، مع ما يعنيه ذلك من تكفير المجتمعات أو التوقُّف في الحكم بإسلامها.
وقد اعتمد في نقده لهذا الرأي على ما يلي:
1- الحديث عن التقرير- بأن معاني الألوهية والربوبية والعبادة والدين كانت شائعة معروفة بين العرب من قبل البعثة وأنها بعد ذلك قد ضاعت وتبدلت وانحصرت في معانٍ ضيقة محدودة غير ما كانت تتسع له من قبل-، لا يتفق مع الواقع، ذلك أنه أيًا كانت المعاني التي كانت شائعة في الجاهلية لتلكم الكلمات فإن القرآن الكريم قد جاء محددًا ما يقصده من كل منها، معرفًا المفهوم المعنيّ من كل لفظة من ألفاظها، مبينًا ذلك غاية البيان، مجليًا المعنى المراد بما لا يدع مجالا للبس أو وغموض وهذا البيان القرآني قد أغنى عن الرجوع إلى أصل تلك الكلمات في اللغة وما كان لها من معانٍ قبل نزوله، ولا يستريب مسلم أن بيان القرآن الكريم هو الأحكم والأوضح والأشمل والأجل، بل هو الذي يتعين الأخذ به والتسليم بمقتضاه سواء وافق ذلك ما كان قبل نزوله أم لا.
2- أن القرآن الكريم اهتم بتحديد معاني المفاهيم الرئيسة للعقيدة (الرب - الإله - الدين) بأوضح وأشمل بيان.، فلا يصح إذن أن يقال: إن معاني هذه الكلمات قد ضاعت واندثرت! والقرآن لا يزال متلوًّا محفوظًا بين المسلمين.
3- عدم صحة الدعوى بأن كل من نزل فيهم القرآن كانوا يحيطون علمًا بمعاني هذه الكلمات، وذلك لسببين:
4- أن شيوع هذه المعاني لا يعني أكثر من معرفة الكثرة الغالبة بها، ولكنه لا يعني القطع بإحاطة الكافة بها على سبيل الاستقراء.
5- أن الذين كانوا بنجد والحجاز، أو غيرها، لم يكونوا جميعًا من العرب الخُلص، بل كان فيهم المستعربون والأرقاء المستجلبون، وأعجميُّو اللسان من الأحرار الأجانب، ونحوه، وقد كانت الدعوة موجهة للجميع.
6 - أنه قد ثبت عدم علم بعض هؤلاء ببعض معاني التوحيد، فبطل الاستقراء (قصة ذات أنواط وما تعنيه من الجهل في باب النُّسك، وقصة عدي بن حاتم، وما تعنيه من الجهل في باب التحاكم).
أحكام شرعية رتبها البعض على ما قدمناه من رأي الأستاذ المودودي:
ويرى الكاتب أن البعض قد رتب على كلام الأستاذ المودودي نتائج وبنوا عليها أحكامًا زعموا أنها مقتضى شريعة الله تعالى فقالوا: إنه لما كان الناس الآن لا يعرفون حقيقة معنى كلمات الإله والرب والعبادة والدين فإنهم إذ يرددون شهادة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" إنما يرددون كلامًا لا يدركون حقيقة معناه وهم لا ينطقون بالشهادة التي كان ينطق بها العربي حين البعثة لأن هذا كان على بينة من معنى ما كان يشهد به ويقرره، ولذا كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقبل تلك الشهادة المعلوم مضمونها ومفهومها لمن أداها، ويعتمدها حكمًا بإسلامه، أما الآن لا نستطيع أن نعتمد إسلام من نطق بالشهادتين ما دام لا يدرك حقيقة مفهومها، وواقع الحال شاهد على ذلك إذ إن كثيرًا ممن ينطقون بالشهادتين يخالفون في نفس الوقت أحكام الدين فيما يتعلق بأنظمتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وسائر شئون حياتهم مع إصرارهم على النطق بالشهادتين والزعم بأنهم مسلمون، وخلصوا من ذلك إلى أنه لا يعتبر مسلمًا تجوز معاملته على هذا الأساس إلا من تأكدنا من فهمه لحقيقة معاني الشهادتين ومفهومها. وزاد البعض على ذلك أنه لابد بالإضافة إلى تأكيدنا من علم الناطق بالشهادتين بمفهومهما أن يقوم عمله شاهدًا على صدق ما نطق به ومؤيدًا له حتى يعتبر مسلمًا، فإن لم تكن أعماله مصدقة لشهادته فإننا لا نستطيع أن نحكم بإسلامه، فلا نعتبره مسلمًا، واحتجوا بالقول المنسوب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام: "ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل".
بطلان القول بعدم إسلام من نطق بالشهادتين إذا جهل مفهومهما
ويرد الكاتب على الرأى القائل بعدم الحكم بإسلام من نطق بالشهادتين في وقتنا الحاضر بزعم أن معناهما الذي كان شائعًا وقت البعثة قد تبدل وتغير ولم يعد مفهومًا على حقيقته – نقول له: إنا قد أسقطنا حجتك فيما أسلفناه وبما أثبتناه من أن معناهما لم يزل شائعًا بين الناس بل أكثر شيوعًا وأكثر وضوحًا مما كان قبل نزول القرآن الكريم. وفضلا عن ذلك، فإنه لم يرد شرع يفيد الربط بين شيوع معنى الألوهية والربوبية في مجموع من الناس وبين قبول شهادة من شهد منهم أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وحكمنا بإسلامه بقولها، واشتراط هذا الشرط شريعة زائدة لا تقبل إلا أن يقيم القائل بها البرهان عليها من كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام.