الاستبداد من وجهة نظر مدرسة الاعتدال (3) راشد الغنوشي

الشيخ راشد الغنوشي رجل مارس الفكر والسياسة فلم تنحصر أفكاره داخل إطارها العقلي، بل مارسها وحاول تطبيقها فى عالم السياسة، وكان من ثمارها قضاء نحو عقدين في المنفى بالعاصمة البريطانية لندن، قبل أن يعود إلى تونس بعد سقوط نظام بن علي عام 2011، وسعى لتطبيق تلك الأفكار فى الدولة التونسية مع حركته التى يتزعمها (حركة النهضة). ومثلت فكرة مواجهة الاستبداد -التى عانى الغنوشي بسببها كثيراً- أحد منطلقاته الفكرية الرئيسية فى معظم كتاباته ومواقفه، وكان كتابه "الحريات العامة فى الدولة الإسلامية" أحد الدلائل القوية على تمكن الفكرة منه، وترسيخ مبدأ مواجهة الاستبداد والنفي، وأن نظام الدولة الإسلامية لا يمكن أبدا أن يؤسس لاستبداد منظومة الحكم.

مفهوم الاستبداد

تناول الغنوشى نظرة المذاهب السياسية المختلفة لمفهوم الاستبداد وأوضح موقفه النقدى منها.. فيقول: 

1- في المذهبية الماركسية، ليس الاستبداد إلا وجهاً من أوجه الصراع السياسي، وكل صراع سياسي إنما هو أثر من آثار العامل الاقتصادى، أى أن الصراع بين الطبقات هو من أجل السيطرة على وسائل الإنتاج، فالصراع الطبقي هو الأساس لكل ألوان الصراع الأخرى فى المجتمع، وإذا كنا جادين فى إنهاء تاريخ الاستبداد وتقريب عهد الحرية فعلينا أن نغذي هذا الصراع أكثر. ينتقد هذا التعريف فيقول: إن المشروعية والسيادة والحرية والثروة هي نظرياً فى هذا النظام للشعب أو على الأقل للحزب الوحيد الحاكم، أما الحاكم الفعلي فى الواقع فهم النخبة المتحكمة فى قيادة الحزب والإدارة والجيش والحياة الاقتصادية، وليس للشعب صاحب السيادة إلا أن يقنع بحق الحياة، فأي ضمان يقدمه هذا التصور لمنع الاستبداد ومنظروه وزعماؤه يعلنون دون مواربة أن الدولة ليست إلا أداة لتصفية الخصوم بالعنف.

2- الديمقراطية الغربية: الإنسان نزاع إلى الشر كما أنه نزاع إلى الخير، فمن الواجب اتخاذ التدابير الضرورية للحد من نزعته الشريرة، والحكومة ما وجدت إلا للحد من نزعة الشر الموجودة فى النفس البشرية، ولو كان الناس ملائكة لما كانت هناك حاجة لقيام الحكومات. ويتساءل: ما الضمان أن لا تتجاوز الدولة مهمتها هذه فتتحول إلى سلطة طاغية مستبدة طالما أنه يديرها بشر يتصارع فى نفسوهم الشر مع الخير؟ فما الضمان من أن لا يساء استعمالها؟ ويرى أن الذي يمعن النظر فى النظم السياسية الغربية المعاصرة التى تعمل فى إطار من المفهوم الليبرالي للدولة يستطيع من غير عناء أن يتبين لها جميعاً دعامتين، أي مبدأين أساسيين، هما: مبدأ الشرعية، ومبدأ سيادة الأمة، والغربيون المعاصرون يرون فى هذين المبدأين الحل الواقي من الاستبداد السياسي ومن ثم فأمثل حل للمشكلة السياسية، كما يرون فيهما، هو ثمرة فلسفاتهم وثقافتهم الحديثة فى مجال السياسة (1)

ضمانات عدم الاستبداد

فى إطار مقارناته يضع الغنوشى تصوره للضمانات والحدود التى تمنع الاستبداد فى التصور الإسلامي، فوفقاً له: ليست الدولة فى التصور الإسلامي سلاحاً فى يد طبقة ضد أخرى أو فئة معارضة -وإن كان للعنف مجاله- ولا هي أداة لتحقيق مجد شعب أو عرق أو طائفة على حساب شعوب وأعراق أخرى، وإنما هي أداة للتهذيب والتربية والارتقاء وتوفير مناخات من الحرية والعدل والتطهر تتيح لأكبر قدر من الناس فرصاً أكبر لمعرفة الله وعبادته واكتشاف طاقات هذا الكون وتسخيرها لصالح تعارف وتعاون وتضامن الشعوب وتآخيها وارتقائها. لكن ما الذي يضمن ألا تتحول الدولة الإسلامية هي نفسها إلى جهاز للقمع والتدمير ومطاردة الأحرار والحيف على حقوق الإنسان والشعوب، ويزداد الأمر سوءاً إذا ادعت أنها تفعل ذلك باسم الله أو رسالة الإسلام، ألا نكون معرضين لديكتاتورية دينية هي شر ما ابتليت وتتبلى به البشرية؟(2) ويحدد عدة مبادئ أساسية لمقاومة الجور (الاستبداد) فى الدولة الإسلامية وهى: مشروعية الله العليا ورقابة الشعب، وأن الإمامة عقد، ووجوب القرب من الناس وعدم الاحتجاب أو البعد عنهم، وإعمال مبدأ فصل السلطات أو تعاونها (3)

الإسلام والاستبداد

ويرى الغنوشي أن الإسلام جاء ثورة بالمعنى العقدي والأخلاقي وجاء ثورة سياسية أيضاً على الحكام المتألهين، وأن هذا التأله (الاستبداد) يتناقض مع العقيدة لأنه يجعل من الحاكم إلهاً، وهذا النموذج حاربه القرآن ورماه بكل سهم، فعقيدة التوحيد تمنع من الاستبداد لأن الله سبحانه وتعالى هو الحاكم الأعلى، وهنالك تربية وهنالك عقيدة وهنالك عبادات. هنالك تربية كلها تربي المسلم على الخوف من الظلم لأن دعوة المظلوم وحتى إن يكن كافراً فليس بينها وبين الله حجاب، ولكن هل التربية وحدها تكفي؟.. بالتأكيد لا تكفي، بل نحتاج إلى أن يكون هناك قانون، والشريعة هي ضامن آخر والشريعة معناها علو سلطة القانون وأن الحاكم لا يصنع القانون إنما ينفذ القانون. وهناك فصل بين السلطات، السلطة التنفيذية التي يشرف عليها الحاكم والسلطة التشريعية التي تمثل الناس وتشرع لهم في إطار مبادئ الإسلام وقيم الإسلام، ما دمنا نتحدث عن مجتمع إسلامي ودولة إسلامية وهناك سلطة قضائية أيضاً مستقلة، وينبغي أن تتوفر لها سلطة الاستقلال وهناك سلطة أخرى رابعة السلطة الإعلامية وينبغي أن تكون يقظة أيضاً(4).

كيف نفسر ما ظهر من استبداد فى تاريخ الإسلام؟

لا يمكن لأحد أن يبرهن أن الإسلام قد شرع الاستبداد لأن تعاليم الإسلام كلها حرب على الظلم ودعوة إلى العدل حتى ذهب فقهاؤه إلى أنه حيث العدل فثم شرع الله.. إن الاستبداد لم يكن حكراً على تاريخ المسلمين بل إن حظهم منه بسبب الإسلام كان أدنى من حظ غيرهم، فلم ينشأ فيهم من يدعى الألوهية أو النطق باسمها، ولا بلغ الضلال والخنوع بجماهيرهم أن بيعت فى أسواقهم تذاكر الغفران والجنة، كما حدث فى الأسواق المجاورة، ولا اعتبرت الأرض ومن عليها ملكاً للحاكم(5). وتحمي مشروعية الإسلام العليا التى يقوم عليها الحكم الإسلامي من تغول الدولة وتأليهها، وتظل قوانينها ومؤسساتها وأشخاصها تحت سلطان القانون الأعلى. إن تاريخ الإسلام لم يكن سلسلة متوالية من أنظمة الجور، بل لم تخل حلقة من حلقاته من نوع تفاعل مع الإسلام، وكانت الشريعة أو أجزاء منها نافذة موقرة، يستمد الحاكم مشروعيته منها، حقيقة أو رسماً، ولم تقم الدولة العلمانية بشكل صريح إلا بسقوط الخلافة العثمانية واقتحام (الدول الديمقراطية) دار الإسلام تعيث فيها فساداً واستغلالاً وتدميراً لتراثها. ويرى أن أبشع الاستبداد الذي عرفه تاريخنا إنما هو فى هذه العصور التى غدت شرعية الحكم فى العالم الإسلامي لا تستمد من الإسلام وأمته، بل من الولاء والتبعية للغرب(6).

مقاومة الاستبداد 

يرى أن أفضل الجهاد هو أن تطيح بهؤلاء الطغاة الذين أذلوا أمتنا وقسموها وجعلوا أموالنا نهباً للعالم وتغتني بها الأمم الأخرى بينما في بلداننا في أمة الإسلام من يجوع ومن يعرى ومن لا يجد المستشفى، وأموالنا تبدد من طرف حكام يزعمون أنهم يطبقون الإسلام وأنهم على خير كثير. لذلك فالبداية في الإصلاح هي من محاربة الاستبداد، ولا صلاح لأمتنا ولا تحرير لفلسطين ولا توحيد لأمتنا ولا نمو اقتصاديا ما لم يثر الناس، ما لم يعتقد الناس اعتقاداً جازماً بأن الاستبداد هو النقيض للدين من كل وجه، وأن الاستبداد هو نقيض للتقدم من كل وجه، وأن أمتنا لن تنال خيراً ما دامت هذه الأنظمة الفاسدة التي لم يخترها أحد فرضت نفسها بالحديد والنار. ويشير إلى أن مطلب الحرية مطلب عظيم، فالجهاد في الإسلام إنما جاء من أجل الحرية في الحقيقة، وحتى الفتوحات الإسلامية إنما جاءت من أجل إزاحة الطغاة وعرض الإسلام على الناس، فرسالة الإسلام الأساسية هي تحرير البشرية من الطغيان، الطغيان السياسي والطغيان الاقتصادي والطغيان الإعلامي والطغيان الفكري؛ لأن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على الخير، فإذا تحرر الناس من الاستبداد وعرض عليهم الإسلام سيكونون سعداء به مرحبين(7).